نوعية الهواء من سيء إلى أسوأ
خلص تقرير جديد، صدر قبل أيام عن "معهد الآثار الصحية" في بوسطن، إلى أن أكثر من 95 في المئة من سكان العالم يتنفسون هواء غير صحي، وأن مواطني أفقر الدول هم الأكثر تضرراً. ووفقاً للتقرير، كانت الصين والهند مسؤولتين عن أكثر من نصف الوفيات المرتبطة بتلوث الهواء، وإن شهدت الصين بعض التقدم في خفض التلوث.
قد تبدو هذه المعطيات صادمةً للوهلة الأولى، لكن ما أورده التقرير هو في المجمل تكرار لمعلومات تغص بها المواقع الإلكترونية لمنظمة الصحة العالمية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة والمؤسسات ذات الصلة.
تلوث الهواء هو أكبر خطر منفرد يهدد الصحة في العالم، ففي كل عام يموت ما بين 7 إلى 8 ملايين شخص نتيجة التعرض لمستويات غير مقبولة من تلوث الهواء الخارجي والداخلي. كما يعدّ تلوث الهواء الخطر البيئي الأكبر على صحة الأطفال دون الخامسة، فهو مسؤول عن ثلث الوفيات التي تقارب 1.7 مليون وفاة مبكرة تحدث سنوياً بفعل التلوث.
أما المنطقة العربية فهي بين أسوأ المناطق أداء في نوعية الهواء، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية. وكثيراً ما تجاوزت المستويات المسجلة لتلوث الهواء 5 إلى 10 أضعاف الحدود القصوى المحددة من قبل المنظمة، في الوقت الذي تقع فيه العديد من المدن العربية بين أكثر 20 مدينة تلوثاً في العالم.
قاعدة بيانات جودة الهواء، التي نشرتها منظمة الصحة العالمية في 2016، تضمنت معطيات رسمية عن نسب الجسيمات الدقيقة في هواء 53 مدينة عربية. وحدها مدينة آسفي المغربية، كانت نسبة المعلقات في هوائها ضمن الحدود العالمية الموصى بها. وهذه النسبة مسجلة قبل أن تبدأ آسفي بتشغيل محطتها الكهربائية الجديدة العاملة على الفحم.
اللافت أن العرب اعتادوا تلوث الهواء باعتباره أمراً واقعاً لا خلاص منه. ففيما كان تلوث الهواء أكثر المشاكل البيئية إلحاحاً (80 في المئة) في استبيان الرأي الذي أجراه المنتدى العربي للبيئة والتنمية في سنة 2006، أجاب أقل من ربع الأشخاص المستطلعة آرائهم بأن تلوث الهواء هو أحد أهم المشاكل البيئية في بلادهم وفقاً لاستبيان أجراه المنتدى في 2017.
وعلى المستوى الرسمي، فرغت جعبة حلول هذه المشكلة تماماً، باستثناء ما يتعلق بالتهديد والوعيد أو التجميل والتزويق. أحد البلدان العربية هدد مواطنيه باستخدام الأقمار الاصطناعية من أجل تسطير مخالفات تلوث الهواء، وفي بلد آخر صدر قرار حكومي بقبول زيادة ارتفاع المداخن كحل سحري للتصريح باستيراد وقود ملوِّث للهواء، وفي بلد ثالث كان مسؤوله يجدّون في التفتيش عن معطيات في تقارير أجنبية للتخفيف من وطأة الأرقام المرعبة لتلوث الهواء التي جاءت بها تقاريرهم الرسمية!
ولا يختلف الأداء العربي الحكومي عما تفعله الكثير من الدول حول العالم، فالاتجاه السائد حالياً هو مواجهة مظاهر تلوث الهواء بدلاً من معالجة أسبابه. ولعل ما قامت به الصين خلال قمة مجموعة العشرين في سنة 2016 هو نموذج مكثّف عن الإجراءات التجميلية التي تتبعها العديد من الدول. حينها تبنى المسؤولون الصينيون حزمة من "الترتيبات المؤقتة" لتوفير هواء جيد يليق بزوارهم، من بينها: إغلاق المصانع خلال فترة الاجتماعات، وتقييد استخدام وسائط النقل الخاصة، ومنح العمال والموظفين إجازة مدفوعة الأجر.
ومن القصص الطريفة التي تروى في هذا الشأن، الخلاف الدبلوماسي المتكرر الذي أشعله مرصد تلوث الهواء الموجود على سطح السفارة الأميركية في بكين. في تشرين الأول (أكتوبر) 2010، أعلنت السفارة عبر تويتر أن مرصدها سجل قياسات "سيئة بجنون" لمستوى الجسيمات الدقيقة في الهواء. ومع اعتراض المسؤولين الصينيين على اللغة غير الدبلوماسية لهذا التوصيف، اضطرت السفارة لنشر تغريدة أخرى تصف التلوث بأنه "يتجاوز مؤشر القياس".
على مدار السنوات التالية، كانت بيانات مرصد السفارة تقوّض على الدوام التصريحات الوردية لسلطات بكين وأيامها ذات السماء الزرقاء. حتى وصل الأمر بالمسؤولين الصينيين إلى مطالبة السفارة بالتوقف عن نشر هذه البيانات، فكان الرد بتعذر ذلك لأن السفارة معنية بحياة المواطنين الأميركيين في الصين. خلال أشهر، توسعت شبكة مراقبة الهواء الأميركية في الصين وأصبحت هناك 5 محطات رصد على أسطح الأبنية الدبلوماسية التابعة للسفارة.
وانطلاقاً من محطة رصد الهواء على سطح السفارة الأميركية في بكين، أصبحت وزارة الخارجية الأميركية بالتعاون مع وكالة حماية البيئة تشغّل حالياً 29 محطة رصد للهواء على أسطح الأبنية الدبلوماسية ضمن 16 دولة، من بينها أربع محطات رصد في ثلاث دول عربية، بذريعة حماية الأميركيين في الخارج من تلوث الهواء.
في الأثناء، تستعد ولاية كاليفورنيا لمقاضاة وكالة حماية البيئة بسبب خطواتها نحو تخفيف القيود والاشتراطات التي تضمن جودة الهواء. ويأتي ذلك في إطار سياسة الإدارة الأميركية التي ينتج عنها مزيد من التلوث الذي تجمّله في عيون مواطنيها باعتباره ثمناً معقولاً لدعم تنافسية الصناعة الوطنية وتوفير المزيد من فرص العمل.
إذا استمرت الأمور على اتجاهاتها الحالية، سيأتي زمن تُصدر فيه السفارة الصينية في واشنطن نشرات دورية عن تلوث الهواء في الولايات المتحدة، وستكون السفارات الأجنبية حول العالم المصدر الثقة لتقييم التلوث في كل بلد تتواجد فيه. عالم متناقض تماماً، يسعى فيه المسؤولون لفضح مظاهر التلوث خارج بلادهم فيما يبذلون جهدهم لإخفاء وتجميل التلوث في أوطانهم!