العلم السيء يطرد العلم الجيد
في مثل هذه الأيام من سنة 1951، استكملت السلطات الأرجنتينية تحقيقاتها التي كان من نتيجتها إلقاء القبض على العالم رونالد ريختر بعد إثبات زيف ادعاءاته. وكان العالم المحتال زعم اكتشاف طريقة غير مسبوقة للحصول على الطاقة الذرية بكلف قليلة، فضجّت البلاد بهذا الإنجاز، حتى أن رئيس الجمهورية الجنرال خوان بيرون أذاع النبأ في مؤتمر صحفي كبير وقلّد ريختر وساماً رفيعاً تقديراً للجهود العلمية التي بذلها.
الأرجنتين، خلال حكم الجنرال بيرون، عانت من تشديد الرقابة على الصحافة وتقييد الحريات المدنية. لكن ذلك لم يوقف الصحافة والعلماء عن التشكيك باكتشاف ريختر الوهمي وإثبات بطلانه. ولك أن تتخيل شجاعة القرار الرسمي بالاصطفاف إلى جانب الحقيقة العلمية، مع ما يعنيه ذلك من إحراج لرئيس الجمهورية فيما الدول تتسابق للإعلان عن تفوقها النووي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
أمثال ريختر كثر في بلداننا العربية، وهم يصولون ويجولون في كل مكان، ويحتالون على عامة الناس من دون رادع أو رقيب. الصحافة تتواطأ معهم مخدوعة بهالة العلم والألقاب الوهمية التي يحملونها (دكتور، باحث، مخترع)، والراسخون في العلم التجريبي يقفون موقف المتفرج لا حول لهم ولا قوة.
توجد قاعدة في الاقتصاد تعرف باسم قانون غريشام تتلخص في المقولة الشهيرة «العملة السيئة تطرد العملة الجيدة». هذه القاعدة استفاض في شرحها العالم العربي تقي الدين المقريزي، قبل البريطاني توماس غريشام بأكثر من مئة سنة، فاقترح أن النقود الرديئة المصنوعة من المعادن الزهيدة كالنحاس والحديد تطرد النقود المسكوكة من المعادن النفيسة كالذهب والفضة.
ويعلّل المقريزي ذلك بأن طرح النقود المعدنية يرفع من الأسعار الفعلية للذهب والفضة بما يفوق أسعار الصرف المحددة، ما يدفع الناس إلى تخزينهما والاكتفاء بتداول النقود الرديئة.
وصف المقريزي لا يقتصر على الاقتصاد، فهو يطال أغلب مناحي الحياة. ويمكن القول بثقة إن «العلم السيء يطرد العلم الجيد»، والبرهان على ذلك الانحدار الخطير في المنهجية العلمية الذي يشهده عدد من جامعاتنا العربية. قرناء العالم ريختر يجتاحون المؤسسات الأكاديمية العربية من المحيط إلى الخليج!
ماذا يعني أن يتم تقديم أطروحة دكتوراه في جامعة حكومية عربية تجادل في كروية الأرض وتعارض قوانين الفيزياء الأساسية؟ كيف لجامعة عربية نظامية أن تتبنى منح الدرجات العلمية في هندسة النفس البشرية وطاقة الهرم؟ وماذا عن عشرات الرسائل العلمية والأبحاث المحكّمة حول علم زائف كالبرمجة اللغوية العصبية تحتفل به أكثر من جامعة عربية حكومية؟
لطالما كانت جامعاتنا العربية محراباً للعلم والثقافة. يكفي أن نعلم أن أقدم جامعة في العالم لازالت قائمة حتى الآن هي جامعة القرويين المغربية التي تأسست سنة 859 ميلادية، وتخرج منها أعلام كبار مثل موسى بن ميمون الطبيب المشهور وإبن خلدون مؤسس علم الاجتماع. أما جامعاتنا اليوم فهي تبحث في "قانون الجذب الفكري" بدلاً من قانون الجذب الكتلي، وتسعى وراء "طاقة الشاكرات" بدلاً من تحليل اندماج الكواركات.