مدوّنة المهندس عبد الهادي النجّار

حمص في سنة 1879
وثائق ومخطوطات

الطلاسم الحمصية في مخطوط الرحلة المدنية والرومية

في منتصف القرن السادس عشر، كانت حمص مدينة صغيرة استقلت قبل فترة وجيزة عن سنجق حمص وحماة المشترك وأصبحت مركز سنجق يتبع ولاية حلب. وكان عدد سكان المدينة في تلك الفترة يقترب من 20 ألف نسمة موزعين ضمن أزقة تتبع خمسة أحياء كبيرة أو محلات هي محلة باب الدريب ومحلة باب تدمر ومحلة القراونة (بستان الديوان) ومحلة باب دمشق (باب السباع داخلاً) ومحلة السيد خالد بن الوليد.

وعلى الرغم من تراجع أهميتها التجارية منذ فترة طويلة، كان لا يزال يوجد في المدينة 6 خانات، منها خان دنكز وخان الدالي (الدالاتي) في باب الجامع الكبير وخان الجديد في سوق النساء وخان الطحين في سوق الحدادين وخان القصابين أو خان الصغير، وعدد من الأسواق الصغيرة مثل سوق الكبير وسوق الحدادين وسوق النجارين بالإضافة إلى سوق لبيع الدواب.

مدخل سوق الحدادين من جهة سوق الحسبة
مدخل سوق الحدادين من جهة سوق الحسبة

وفي الإحصائيات العثمانية التي تسمى "دفتر التحرير" نجد الكثير من المعلومات عن الوضع العام في حمص ومواردها، فيما تزودنا وثائق أخرى بمعلومات عن الحياة الاجتماعية في المدينة. ومن بين الوثائق التي تتناول أعلام ومعالم حمص في منتصف القرن السادس عشر مخطوط "الفوائد السَنية في الرحلة المدنية والرومية" لقطب الدين محمد النهروالي.

والنهروالي رجل دين من أصول هندية، انتقل إلى الحجاز وأقام في مكة، وهو أيضاً مؤرخ رفيع الشأن حتى عدّه البعض المؤرخ الأول في القرن العاشر الهجري، فيما وصفه آخرون على أنه "مؤرّخ الدولة العثمانية". وكان النهروالي بدأ رحلةً في نهاية سنة 1557 من مكة إلى إسطنبول في إطار "مهمة دبلوماسية" بطلب من الشريف حسن بن نجم الدين محمد حاكم مكة والمدينة لمناشدة الباب العالي إقالة مسؤول عثماني محلي.

وفيما لم ينجح النهروالي في تحقيق مهمته، على الرغم من وصوله إلى البلاط العثماني ولقائه برستم باشا كبير وزراء السلطان سليمان القانوني، إلا أن ما دونه في رحلته كان أهم ما أنجزه حيث أورد معلومات قيّمة عمّا شاهده على طول رحلته من مكة إلى إسطنبول مروراً بحواضر كثيرة كالمدينة وتبوك وعمان والزرقاء ودمشق وحمص وحماة وحلب وأضنا وقونيا، وفي عودته عبر البحر مروراً برودس والإسكندرية ثم القاهرة وينبع.

وفي حمص، التي وصلها يوم الأحد 16 ربيع الآخر 965 هجري الموافق لـ 6 شباط 1558 شرقي، يصف النهروالي المدينة بالبلد الكبيرة جداً إلا أن غالبها خراب، ولها حصار (سور) عظيم وحصن، ويجري بها النهر العاصي. ويتابع النهروالي في وصف حمص فيقول: "وكانت من محاسن بلاد الشام إلا أنها دثرت الآن. والموجود الآن في دفتر العوارض أربعة آلاف وأربعماية بيت، وذلك خارج عن ألف بيت تقريباً ليسوا في الدفتر لأنهم لا يعطون شيئاً في العوارض. وفي نسائهم جمال وحسن ليس في غير بني نساء أهل ذلك القطر".

ودفتر العوارض هو سجل بأسماء أصحاب البيوت ممن يقع عليهم دفع المال في الحالات الطارئة كالكوارث الطبيعية والحرب، ولا يضم الدفتر أسماء من حاز على الرتب العالية والعسكر وكبار رجال الدين والدولة وغيرهم. ومن الملاحظ أن أعداد البيوت الواردة في دفتر العوارض تنسجم مع الإحصاء المسجل في دفتر التحرير عن تلك الفترة.

ويورد النهروالي في مخطوطه مشاهدته لطلسم العقرب الذي تناولته كتب الرحالة والجغرافيين، فيصفه على أنه "بيت مربع مسدود الجوانب لا يُدرى ما باطنه، وهو في سوق الحدادين بقرب تربة سيدي عمرو بن عبسة"، ويذكر الرواية المعروفة لإسلام هذا الصحابي الذي تقع تربته حالياً في مسجد صغير تحت بناء مديرية الأوقاف في سوق الحسبة.

ثم يكمل النهروالي حديثه عن طلسم العقرب، فيقول: "وقفت في الجانب القبلي من هذا الطلسم فرأيت الناس يأخذون الطين ويكبكبونه، ويضربون به حجراً في الجدار القبلي من هذا البناء، فما سقط منه تركوه وما لصق منه بالحجر أخذوه إلى البلدان برسم الهدية. وهو دواء مجرب للعقرب يطعمون الملسوع منه، ويضعونه على اللسعة فيبرأ، ويحلّونه في الماء ويرشون جوانب الدار التي فيها العقرب فتموت عقاربها. وقد حملت معي جانباً منه".

وسوق الحدادين لا يزال موجوداً ضمن الأسواق القديمة في وسط المدينة، وهو يتصل بسوق الحسبة شمالاً، على بعد عدة أمتار عن تربة الصحابي عمرو بن عبسة، ثم يتفرع عن سوق الفرو ليتجاوز شارع المعرض، ثم يتابع جنوبا فيصل إلى شارع القاسمي المتفرع عن شارع أبي العوف.

ويتقاطع وصف النهروالي مع ما جاء في مخطوط "تواريخ حمص العدية داخلاً وخارجاً" الذي وضعه قسطنطين بن داود سنة 1862، ومما ورد فيه "رصد العقرب بجانب باب السوق: إن هذا الرصد مرسوم على جرن ماء حجر أزرق، طوله ثلاثة أذرع ونصف وعرضه ذراع وربع وارتفاعه ذراع ونصف، يسع نحو عشرين جرة ماء، ومرسوم عليه صورة عقربين مقابل بعضهم بعضاً".

 

رسم رصد العقرب في مخطوط لقسطنطين بن داود
رسم رصد العقرب في مخطوط لقسطنطين بن داود

ويشير النهروالي إلى طلسم آخر في حمص، لم يرد ذكره في كتب التاريخ التي وصلت إلينا، وهو طلسم الدبور الموجود "في موضع متهدم" من دون بيان أية معلومات أخرى. كما يتحدث عن طلسم مجهول آخر هو طلسم النمل فيقول: "وبها أيضاً موضع خراب كان طلسماً للنمل. هدمه بعض أمراء الجراكسة يظن أن تحته كنزاً، فوجد فيه طبقاً من السبع المعادن في وسطه نملة من ذهب. فظهر به النمل من ذلك اليوم في حمص".

وبذلك فإن طلسم النمل الحمصي، الذي نقرأ عنه لأول مرة، لم يكن سوى طبق مصنوع من خليط سبعة معادن هي الذهب والفضة والنحاس والحديد والزئبق والرصاص والقصدير، يعتقد الأقدمون أنها تمنح قدرات سحرية، ويتوسطه نقش لنملة مصنوعة من الذهب. ولكن إخراج هذا الطبق من موضعه أفقده قدراته مما جعل النمل ينتشر في المدينة.

على الرغم من الأهمية الكبيرة لمخطوط قطب الدين محمد النهروالي "الفوائد السَنية في الرحلة المدنية والرومية" إلا أنه لم يجد طريقه إلى التحقيق باستثناء ما أنجزه باللغة الإنكليزية الدكتور ريتشارد بلاكبرن في كتاب حمل عنوان "رحلة إلى الباب العالي"، وصدر عن المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت سنة 2005. ولعل الفرصة تكون مواتية، لنورد المزيد مما جاء في هذا المخطوط عن حمص ومحيطها في مقالات قادمة.